وهى سيرة الشاعر<أبو الشمقمق>،وثانى هذه السير كانت للشاعر المصرى<شاعر البؤس/عبد الحميد الديب>.
وانه واستكمالا"لاكتمال هذه السلسلة ،والتى روعى عند عرضها،أن نقتطف تسلسلها بغير ارتباط تاريخى،وذلك حتى لا يكون عرضا"نمطيا"،يقترب من الدراسة،ويبتعد عن الاطلاع،فكتب التخصص لأمهات الكتب العربية تتضخم بها المكتبات،وتتفرع فيها الموضوعات،وليس هذا هو الاطار للعرض عبر المنتديات،فالعينة التى سوف تجئ بهذه السلسلة،أقرب الى العشوائية عند الاختيار،ولكن دون اهمال ان يصل لللقارئ أو المطلع أن يعلم ان ظاهرة الصعلكة فى الشعر بدأت من زمن بعيد،قد تكون البداية مع بدايات الشعرذاته و بأنواعه.
على وجه العموم:ستكون هذه الحلقة فى شأن سيرة الشاعر <أبو الحسين الجزار>.
فهو جمال الدين أبو الحسين يحيى عبد العظيم ابن يحيى بن محمد بن على المعروف بالجزار.
وجد،وهذا مكتوب بخطه أنه مولو بالعام 601 للهجرة فى مدينة الفسطاط،وقد نشأ بها وعمل بالجزارة كأبيه وأقاربه،الا انه قد بدت عليه منذ صغره امارات الميل للشعر ،وبدت عليه تلك الدلائل التى يستنتج منها ميوله الفطرية الى ذلك،وهوماحدا بأبيه لأن يأخذه الى الشاعر الذائع الصيت الذكى ابن أبى الاصبع،ليعلمه فنون الشعر.
بدا أبو الحسين الجزار يقف على شيئ ليس بالقليل من العلوم الادبية والدينية والتاريخية،وبدأ يقرض الشعر حتى اصبح واحدا"من اكبر شعراء الفسطاط.
أمام هذا نجد ان ابو الحسين الجزار قد ترك مهنة ابيه وأقاربه،وتكسب بالشعر،وساعده على السير فى هذا المجال اتصاله بالحكام والوزراء والامراء والكتاب،فأخذ يمدحهم ويأخذ من عطاياهم وقد ودع حرفة الجزارة تماما"فقال :
حسبى حرافا" بحرفتى حسبى
أصبحت منها معذب القلب
موسخ الثوب والصحيفة من
طول اكتسابى ذنبا"بلا كسب
أعمل فى اللحم للعشاء ولا
أنال منه العشاء فما ذنبى
خلا فؤادى ولى فم وسخ
كأننى فى جزارتى كلبى….!!
ولكن اسرافه،وتبذيره،وهى عادة سنقف عليها عند كثير من شعراء الصعلكة،وفيمن أتيحت له الفرص الاتصال بالمدح لعلية القوم،فرغم هذا وبسبب اسراف شاعرنا ،أصبح فى ضيق من الحال والمال،فكانت سوق الشعر لمثله غير مربحة بالمرة،مما جعله وتحت عادة كرمه المفتوحة على مصراعيها ينشد معبرا":
لاتسلنى عن الزمان فانى
قد بدت لىّ اضغانه وحقوده
زمن لان عطفه عند غيرى
وهو عندى صعب المراس شديده
كيف يبقى الجزار فى يوم عيد النحر
رهن الافلاس والعيد عيده
يتمنى لحم الأضاحى وعند
الناس منه طريه وقديده…!!
فلما وجد ان مهنة الادب لم تسعف سد انفاقه،بدأ يحن للعودة الى الجزارة من جديد،عساه أن يجد فيها بحبوحة من العيش،فانشد:
لاتلمنى ياسيد شرف
الدين اذا مارأيتنى قصابا"
كيف لاأشكر الجزارة ماعشت
حفاظا" وأرفض الاّدابا
وبها أضحت الكلاب ترجينى
وبالشعر كنت أرجو الكلابا
ولكن الواضح ان شاعرنا لم يترك الشعر من هذا التاريخ وهو644 هجرية،فالواصل من أخباره أنه توفى عام 679 هجرية وله اشعار كثيرة قبل وفاته.
أشعاره عموما" غلبت عليها صيغ الشكوى وعدم الرضى فى زمن لاتنفع فيه حرفة الجزارة ولامهنة الأدب كذلك ،وهو فى هذه الحيرة ينشد:
أصبحت فى امرى ولا
أشكو لغير الله حائر
ولكم يذكرنى الشتاء
بأمره ولكم أكاسر
واللحم يقبحاأن أعود
لبيعه والشعر بائر
ياليتنى لاكنت جزارا"
ولاأصبحت شاعر…!!
الا أننا عند تقييمه ،وبعيد عن هذه الحيرة،حيرته هو،نجده انه بطبعه شاعر،وكغيره من شعراء مصر المجيدين فى الشعر بفطرة الشعر ذاته،كالشاعر الوراق،والحمامى،وابن دانيال الكحال…
واضافة المهنة كلقب للشاعر ساعدت على انتشار اشعار هؤلاء فى الساحة المصرية بزمن كل منهم ولولا هذه الكنيات لربما تأثرت كمية الشعر الواصلة الينا منهم عما هى عليه الاّن.
تلخص هذه المقتطفة،ماأردنا ان نوحيه للمتلقى فيقول الجزار ،وهو يشكو ايضا"وقد راحت نفسه<للقطائف والكنافة وكذلك الدعاء على ايام المخلل>:
سقى الله أكناف الكنافة بالقطر
وجاد عليها سكر دائم الدر
وتبا"لأوقات المخلل انها
تمر بلا نفع وتحسب من عمرى
أهيم غراما" كلما ذكر الحمى
وليس الحمى الا القطارة بالسعر
واشتاق ان هبت نسيم قطائف ال
سحور سحيرا"وهى عاطرة النشر
ولىّ زوجة تشتهى قاهرية
أقول لها ماالقاهرية فى مصر..
الى جانب شعر الشكوى للجزار،فقد وقف له على نوع اّخر برع فيه،وهواستعراض شعرالقدماء
وتصفيحه على وجهته هو،وهو النوع المعروف ان جاز لذلك تسمية"،شعر التحامق،وللتقريب،فانه وفى احد قصائده وهى تصفحا"لمعلقة امرئ القيس والتى مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
نجده يتناولها على هذا النحو بتصفحه هو:
قفا نبك من ذكرى قميص وسروال
ودراعة لىّ عفا رسمها البالى
وماأنا من يبكى اسماء ان تأت
ولكننى ابكى على فقد اسمالى
ولو ان امرأ القيس رأى الذى
أكابده من فرط همى وبلبالى
لما مال نحو الخدر خدر عنيزة
ولابات الا وهو عن حبها سالى
ولى من هوى سكنى القياسر عن هوى
بتوضح فالمقراة أعظم اشغالى
ولاسيما والبرد وافى بريده
وحالى على مااعتدت من عسره حالى
ترى هل يرانى الناس فى فرجية
اجر بها تيها"على الأرض أذيالى
ويمسى عدوى غير خال من الأسى
اذا بات من امثالها بيته خالى
ولو أننى اسعى لتفصيل جبة
كفانى ولم اطلب قليلا" من المال
ولكننى أسعى لمجد بجوخة
وقد يدرك المجد المؤثل امثالى
وهذا نوع جديد من الادب ،شاع خصوصا" فى الأدب العامى ،وكان له جمهور عريض من المتلقين،كنوع جديد من السخرية فى اطار غير مطروق من قبل،والجزار من البارعين فى هذا اللون الجديد،من خلفيته التى سقاها من روحه الطلقة فى الفكاهة،وماتميز به من سرعة التهكم والسخرية،أعانه على ذلك أداة التورية فى مواضع كثيرة منها:
تزوج الشيخ أبى شيخه
ليس لها عقل ولاذهن
لو برزت صورتها فى الدجى
ماجسرت تبصرها الجن
كأنها فى فرشها رمة
وشعرها من حولها قطن
وقائل قال ماسنها
فقلت مافى فمها سن..!!
قال ذلك فى زوجة ابيه…!!
وفى وصفه لداره:
ودار خراب بها نزلت
ولكنى نزلت الى السابعة
طريق من الطرق مسلوكة
محجتها للورى شاسعة
فلافرق مابين انى اكون
بها أو أكون على القارعة
تساررها هفوات النسيم
فتصغى بلا أذن سامعة
وأخشى بها أن أقيم الصلاة
فتسجد حيطانها الراكعة
اذا ما قرأت اذا زلزلت
خشيت بأن تقرأ الواقعة..!!
انها لأقسى سخرية قد يصل اليها شاعر رقيع فى الصعلكة،رفيع فى التهكم ،والى درجة تجعل المتلقى لشعره يستلقى على أعضائه كلها من كثرة الضحك.
وهو فى نفس الدرجة،نجده فى رثاء حماره وقد مات يقول:
كم من جهول راّنى أمشى
لأطلب رزقا"
فقال لى صرت تمشى وكل
ماشى ملقى
فقلت مات حمارى تعيش
أنت وتبقى…
ولعل أجمل رثاء لذاك الحمار الذى فارقه الجزار:
ماكل حين تنجح الأسفار
نفق الحمار وبارت الأشعار
خرجى على كتفى وهاأنا دائر
بين البيوت وكأننى عطار
……
……
لم أدر عيبا" فبه الا أنه
مع ذا الذكاء بقال عنه حمار
ويلين فى وقت المضيق ويلتوى
فكأنما بيديك منه سوار
ولقد تحامته الكلاب وأحجمت
عنه وفيه كل ماتختار
فرعت لصاحبه عهودا" قد مضت
لما علمن أنه جزار….