التَّرَف هو الإغراق في التنعُّم، والتوسُّعُ في أسباب الرَّفاهية، والمُتْرَف: المتنعِّم الذي أبطرته النِّعمة وسعة العيش، والتَّرف له جانبان: أحدهما ماديٌّ، وهو التنعُّم، وآخَر معنوي، وهو البطَر
والقرآن الكريم يرى وجود الطَّبقات المترفة خطرًا داهِمًا، لا يفتأ يتهدَّد الحياة الإنسانية، ويَملأ مستقبلها بالغيوم، كما يرى أنَّ تأمين الشُّعوب على سعادتها وحقِّها يتطلب اتِّخاذ الوسائل المُمْكِنة؛ للحيلولة دون ظهور التَّرف والمُتْرَفين.
والمُتْرَفون يزدَرون نِعَم الله عليهم، وتُغريهم كثرتُها بابتذالِها وقلَّة شكر الله عليها، وإراقتها فيما لا جدوى منه، والشحّ بِها على مَن يَحتاجون إليها، ولعلَّ ذلك هو السبب في جعلهم خلاصةَ أهل النار، الذين استحقُّوا سخط الله وعذابه الأليم؛ ﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 41 – 46]، فالمُترَفون في القرآن أعداءُ كلِّ رسالة، وخصومُ كلِّ إصلاح وتقدُّم، وأتباع كلِّ قديم، ولو كان ضلالاً! فهم مصدر فسادٍ عريض، ومثار فِتَن متجدِّدة.
وقد فصَّل القرآن الكريم في كثير من سورِه موقفَ الطَّبقات المُتْرَفة، تجاه كلِّ كتاب مُنَزَّل، وكلِّ نبِيٍّ مُرسَل، فكان التكذيب واحدًا للدِّين الواحد الذي بعث الله به أنبياءَه، مِن لَدُن نوحٍ – عليه السَّلام – إلى خاتَمِ الأنبياء والمُرسَلين محمَّدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ومِمَّا يُثير العجب تَشابه الردِّ الذي انتظم على ألسنتهم جميعًا حتَّى لتكاد تجزم بأنَّهم يشعرون بعاطفةٍ واحدة، وُدافعون عن مصلحة واحدة.
فمنذ عهد نوحٍ – عليه السَّلام – نجد هذه الطَّبقة المُتْرَفة المستكبِرة تقف في وجه دعوته، مستصغِرةً شأن الذين اتَّبعوه من الفقراء الذين لا مال لَهم ولا جاه، ويطلبون منه أن يطرد هؤلاء الأراذِلَ في رأيهم؛ ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ [هود: 27].
فيردُّ نوحٌ على تعنُّتِهم، قائلاً: ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [هود: 29 – 30].
واستمرَّ موقف المترفين بعد قوم نوح – الذين أهلكهم الله – لَم يتغيَّر؛ ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ [المؤمنون: 31 – 33].
واستمر هذا الموقف من العناد والصدِّ إلى بعثة النبيِّ محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – فكانوا أوَّلَ المكذِّبين المعارضين، فوجَّه القرآنُ لهم وعيدَه في عددٍ من السُّور المكية: ﴿ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 11]، ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 3].
ويقرِّر القرآن موقف المترفين من الرِّسالات الإلهية بصفة عامَّة، فيقول: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [سبأ: 34 – 35].
هؤلاء قد ضلَّ تفكيرهم عندما ربطوا مَجْدَ الدنيا وسعادة الآخرة بكثرةِ الأموال والأولاد، والقرآنُ يَردُّ عليهم شارحًا الطريق الصَّحيح للعظَمة الإنسانيَّة، وهو العمل الصَّالِح، والخلق الرَّضِي، لا البطر الذي أتيح لهم بسبب ما عندهم من قوة؛ ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 37].
إن التَّرَف مُفسِدٌ للفرد؛ لأنَّه يشغله بشهواتِ بطنه وفَرْجِه، ويلهيه عن معالي الأمور ومكارم الأخلاق، لأنَّه يقتل فيه روحَ الجهاد والجد والخشونة، ويجعله عبدًا لحياة الدَّعة والرفاهية، وفي هذا يقول الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدِّرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة)).
كما أن التَّرف مفسدٌ للجماعة، منذِرٌ بانْهيارها، ولهذا قرَنه القرآن الكريم بالظُّلم والإجرام؛ وسِرُّ ذلك أن الأقلية المترفة تسرق بترفها حقوقَ الأكثريَّة المَحرومة؛ ظلمًا، وتسمن على حساب هزالِها؛ إجرامًا، قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 116].
ومن هنا كان الترف في نظر القرآن الكريم من أقوى أسباب الانْحِلال الاجتماعيِّ، خاصَّة إذا كثر المترفون، وأصبحوا من ذوي الجاه والسُّلطان، وقد بيَّن القرآنُ هذه السُّنة الاجتماعيَّة في قوله: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16].
جاء في التحرير والتنوير – (ج 8 / ص 199):
"وتعليق الأمر بِخُصوص المترفين مع أنَّ الرُّسل يُخاطِبون جميع الناس؛ لأنَّ عصيانَهم الأمرَ الموجَّه إليهم هو سبب فسقِهم، وفسق بقيَّة قومهم؛ إذْ هم قادة العامَّة، وزعماء الكُفر، فالخِطاب في الأكثر يتوجَّه إليهم، فإذا فسقوا عن الأمر اتَّبعهم الدَّهماء؛ فعمَّ الفسق أو غلب على القرية، فاستحقَّت الهلاك.
وقرأ الجمهورُ ﴿ أَمَرْنا ﴾ بهمزة واحدة وتخفيف الميم؛ أيْ: أمرناهم بالطَّاعة والعدل، ففَسقوا عن أمر الله، وفعلوا الفواحشَ، ما ظهر منها وما بطن، فاستحقُّوا عقوبة الله، وقرأ يعقوب: ﴿ آمَرْنا ﴾ بالمدِّ، بِهَمزتين: همزة التعدية، وهمزة فاء الفعل؛ أيْ: جعلناهم آمِرين؛ أيْ: داعين قومَهم إلى الضَّلالة، والفسق: الخروج عن المقرِّ وعن الطريق، والمراد به في اصطلاحِ القرآن الخروجُ عمَّا أمر الله به، وتقدَّم عند قوله تعالى: ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26] في سورة البقرة"
وهناك قراءة بتشديد الميم: ﴿ أمَّرْنا ﴾؛ أيْ: جعلناهم أُمَراء وحكَّامًا، فطغَوْا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصبَّ عليهم ربُّك سوط عذاب، إن ربَّك لبالمرصاد، ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ ومَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123].
"والتدمير: هدم البناء وإزالة أثَرِه، وهو مستعارٌ هنا للاستئصال؛ إذِ المقصود إهلاك أهلها، ولو مع بقاء بنائهم كما في قوله: ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ [يوسف: 82]".
فعندما تسمح القرى للمُترَفين بالوجود والحياة يحقُّ عليها القول بالهلاك والتدمير، فالإرادة هنا ليست إرادةً للتَّوجيه القهريِّ الذي يُنشئ السَّبب، ولكنَّها ترتُّب النتيجة على السبب؛ الأمر الذي لا مفرَّ منه؛ لأن السُّنة جرت به، والأمر ليس أمرًا توجيهيًّا إلى الفسق، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعيَّة المترتِّبة على وجود المترفين، وهي الفسق.
وهُنا تَبْرز تَبِعة الجماعة في تَرْكِ النُّظم الفاسدة تُنشِئ آثارَها التي لا مفرَّ منها، وعدَم الضرب على أيدي المترفين فيها؛ كي لا يفسقوا فيها، فيحقّ عليها القول، فيدمِّرها الله تدميرًا.
هذه السُّنة قد مضت في الأولين من بعد نوحٍ، قرنًا بعد قرن، كلَّما فشَت الذُّنوب في أُمَّة انتهت بِها إلى ذلك المصير، والله هو الخبير بذنوب عباده، البصيرُ بِهم، ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 17].
كما أنَّ الإغراق في التنعُّم والتَّرف سبب لِنُزول بلاء الله وعقابه، والحرمان من النَّصر؛ ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 64 – 65]، ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 11 – 13].
لذلك نجد الإسلام قد حرَّم بعض الأشياء التي تعد أمثلةً بارزة للتَّرَف، ومن ذلك:
تحريم الأكل في أوانِي الذَّهَب والفِضَّة:
فقد روى الشَّيخان عن أمِّ سلمة – رضي الله عنها – عن النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الذي يأكل ويشرب في آنية الفضَّة إنَّما يُجَرجر في بطنه نار جهنم))، والجرجرة: صوت الماء.
لبس الحرير والديباج:
فعن حذيفة – رضي الله عنه – قال: سمعتُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: ((لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صِحافها)).
كذلك لا تُتَّخذ هذه الأواني زينةً وتحفة، ولا التماثيل الفضيَّة والذهبية؛ لأن الإثم فيها مزدوج؛ لِحُرمة التماثيل نفسها، ثُمَّ لحرمة اتِّخاذها من الذهب والفضة.
حلي الذهب وملابس الحرير بالنسبة للرِّجال:
قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ هذين حرامٌ على ذكور أمتي))، ويدخل في ذلك قلم الذَّهب وساعة الذهب… إلخ.
وهكذا تتضافر نصوص الدِّين الصَّحيحة الصريحة، وقواعِدُه العامَّة، على تحقيق وحدة الأمَّة وبقائها في ظلِّ الإيمان الصادق والعدالة الشَّاملة.
والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.
والقرآن الكريم يرى وجود الطَّبقات المترفة خطرًا داهِمًا، لا يفتأ يتهدَّد الحياة الإنسانية، ويَملأ مستقبلها بالغيوم، كما يرى أنَّ تأمين الشُّعوب على سعادتها وحقِّها يتطلب اتِّخاذ الوسائل المُمْكِنة؛ للحيلولة دون ظهور التَّرف والمُتْرَفين.
والمُتْرَفون يزدَرون نِعَم الله عليهم، وتُغريهم كثرتُها بابتذالِها وقلَّة شكر الله عليها، وإراقتها فيما لا جدوى منه، والشحّ بِها على مَن يَحتاجون إليها، ولعلَّ ذلك هو السبب في جعلهم خلاصةَ أهل النار، الذين استحقُّوا سخط الله وعذابه الأليم؛ ﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 41 – 46]، فالمُترَفون في القرآن أعداءُ كلِّ رسالة، وخصومُ كلِّ إصلاح وتقدُّم، وأتباع كلِّ قديم، ولو كان ضلالاً! فهم مصدر فسادٍ عريض، ومثار فِتَن متجدِّدة.
وقد فصَّل القرآن الكريم في كثير من سورِه موقفَ الطَّبقات المُتْرَفة، تجاه كلِّ كتاب مُنَزَّل، وكلِّ نبِيٍّ مُرسَل، فكان التكذيب واحدًا للدِّين الواحد الذي بعث الله به أنبياءَه، مِن لَدُن نوحٍ – عليه السَّلام – إلى خاتَمِ الأنبياء والمُرسَلين محمَّدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ومِمَّا يُثير العجب تَشابه الردِّ الذي انتظم على ألسنتهم جميعًا حتَّى لتكاد تجزم بأنَّهم يشعرون بعاطفةٍ واحدة، وُدافعون عن مصلحة واحدة.
فمنذ عهد نوحٍ – عليه السَّلام – نجد هذه الطَّبقة المُتْرَفة المستكبِرة تقف في وجه دعوته، مستصغِرةً شأن الذين اتَّبعوه من الفقراء الذين لا مال لَهم ولا جاه، ويطلبون منه أن يطرد هؤلاء الأراذِلَ في رأيهم؛ ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ [هود: 27].
فيردُّ نوحٌ على تعنُّتِهم، قائلاً: ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [هود: 29 – 30].
واستمرَّ موقف المترفين بعد قوم نوح – الذين أهلكهم الله – لَم يتغيَّر؛ ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ [المؤمنون: 31 – 33].
واستمر هذا الموقف من العناد والصدِّ إلى بعثة النبيِّ محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – فكانوا أوَّلَ المكذِّبين المعارضين، فوجَّه القرآنُ لهم وعيدَه في عددٍ من السُّور المكية: ﴿ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 11]، ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 3].
ويقرِّر القرآن موقف المترفين من الرِّسالات الإلهية بصفة عامَّة، فيقول: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [سبأ: 34 – 35].
هؤلاء قد ضلَّ تفكيرهم عندما ربطوا مَجْدَ الدنيا وسعادة الآخرة بكثرةِ الأموال والأولاد، والقرآنُ يَردُّ عليهم شارحًا الطريق الصَّحيح للعظَمة الإنسانيَّة، وهو العمل الصَّالِح، والخلق الرَّضِي، لا البطر الذي أتيح لهم بسبب ما عندهم من قوة؛ ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 37].
إن التَّرَف مُفسِدٌ للفرد؛ لأنَّه يشغله بشهواتِ بطنه وفَرْجِه، ويلهيه عن معالي الأمور ومكارم الأخلاق، لأنَّه يقتل فيه روحَ الجهاد والجد والخشونة، ويجعله عبدًا لحياة الدَّعة والرفاهية، وفي هذا يقول الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدِّرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة)).
كما أن التَّرف مفسدٌ للجماعة، منذِرٌ بانْهيارها، ولهذا قرَنه القرآن الكريم بالظُّلم والإجرام؛ وسِرُّ ذلك أن الأقلية المترفة تسرق بترفها حقوقَ الأكثريَّة المَحرومة؛ ظلمًا، وتسمن على حساب هزالِها؛ إجرامًا، قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 116].
ومن هنا كان الترف في نظر القرآن الكريم من أقوى أسباب الانْحِلال الاجتماعيِّ، خاصَّة إذا كثر المترفون، وأصبحوا من ذوي الجاه والسُّلطان، وقد بيَّن القرآنُ هذه السُّنة الاجتماعيَّة في قوله: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16].
جاء في التحرير والتنوير – (ج 8 / ص 199):
"وتعليق الأمر بِخُصوص المترفين مع أنَّ الرُّسل يُخاطِبون جميع الناس؛ لأنَّ عصيانَهم الأمرَ الموجَّه إليهم هو سبب فسقِهم، وفسق بقيَّة قومهم؛ إذْ هم قادة العامَّة، وزعماء الكُفر، فالخِطاب في الأكثر يتوجَّه إليهم، فإذا فسقوا عن الأمر اتَّبعهم الدَّهماء؛ فعمَّ الفسق أو غلب على القرية، فاستحقَّت الهلاك.
وقرأ الجمهورُ ﴿ أَمَرْنا ﴾ بهمزة واحدة وتخفيف الميم؛ أيْ: أمرناهم بالطَّاعة والعدل، ففَسقوا عن أمر الله، وفعلوا الفواحشَ، ما ظهر منها وما بطن، فاستحقُّوا عقوبة الله، وقرأ يعقوب: ﴿ آمَرْنا ﴾ بالمدِّ، بِهَمزتين: همزة التعدية، وهمزة فاء الفعل؛ أيْ: جعلناهم آمِرين؛ أيْ: داعين قومَهم إلى الضَّلالة، والفسق: الخروج عن المقرِّ وعن الطريق، والمراد به في اصطلاحِ القرآن الخروجُ عمَّا أمر الله به، وتقدَّم عند قوله تعالى: ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26] في سورة البقرة"
وهناك قراءة بتشديد الميم: ﴿ أمَّرْنا ﴾؛ أيْ: جعلناهم أُمَراء وحكَّامًا، فطغَوْا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصبَّ عليهم ربُّك سوط عذاب، إن ربَّك لبالمرصاد، ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ ومَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123].
"والتدمير: هدم البناء وإزالة أثَرِه، وهو مستعارٌ هنا للاستئصال؛ إذِ المقصود إهلاك أهلها، ولو مع بقاء بنائهم كما في قوله: ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ [يوسف: 82]".
فعندما تسمح القرى للمُترَفين بالوجود والحياة يحقُّ عليها القول بالهلاك والتدمير، فالإرادة هنا ليست إرادةً للتَّوجيه القهريِّ الذي يُنشئ السَّبب، ولكنَّها ترتُّب النتيجة على السبب؛ الأمر الذي لا مفرَّ منه؛ لأن السُّنة جرت به، والأمر ليس أمرًا توجيهيًّا إلى الفسق، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعيَّة المترتِّبة على وجود المترفين، وهي الفسق.
وهُنا تَبْرز تَبِعة الجماعة في تَرْكِ النُّظم الفاسدة تُنشِئ آثارَها التي لا مفرَّ منها، وعدَم الضرب على أيدي المترفين فيها؛ كي لا يفسقوا فيها، فيحقّ عليها القول، فيدمِّرها الله تدميرًا.
هذه السُّنة قد مضت في الأولين من بعد نوحٍ، قرنًا بعد قرن، كلَّما فشَت الذُّنوب في أُمَّة انتهت بِها إلى ذلك المصير، والله هو الخبير بذنوب عباده، البصيرُ بِهم، ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 17].
كما أنَّ الإغراق في التنعُّم والتَّرف سبب لِنُزول بلاء الله وعقابه، والحرمان من النَّصر؛ ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 64 – 65]، ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 11 – 13].
لذلك نجد الإسلام قد حرَّم بعض الأشياء التي تعد أمثلةً بارزة للتَّرَف، ومن ذلك:
تحريم الأكل في أوانِي الذَّهَب والفِضَّة:
فقد روى الشَّيخان عن أمِّ سلمة – رضي الله عنها – عن النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الذي يأكل ويشرب في آنية الفضَّة إنَّما يُجَرجر في بطنه نار جهنم))، والجرجرة: صوت الماء.
لبس الحرير والديباج:
فعن حذيفة – رضي الله عنه – قال: سمعتُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: ((لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صِحافها)).
كذلك لا تُتَّخذ هذه الأواني زينةً وتحفة، ولا التماثيل الفضيَّة والذهبية؛ لأن الإثم فيها مزدوج؛ لِحُرمة التماثيل نفسها، ثُمَّ لحرمة اتِّخاذها من الذهب والفضة.
حلي الذهب وملابس الحرير بالنسبة للرِّجال:
قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ هذين حرامٌ على ذكور أمتي))، ويدخل في ذلك قلم الذَّهب وساعة الذهب… إلخ.
وهكذا تتضافر نصوص الدِّين الصَّحيحة الصريحة، وقواعِدُه العامَّة، على تحقيق وحدة الأمَّة وبقائها في ظلِّ الإيمان الصادق والعدالة الشَّاملة.
والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.
بارك الله فيك