.
كانت الصغيراتْ يتدافعنْ بِتربُصْ إلى ما خَلفْ ذلِك الباب المتينْ .. الكاتِمْ لأيَّ ضوضاءٍ تقبعُ خلفه ؛ يَنتَظِرنَها بِترَقُبْ وَلهفة .. وَقليلاً مِنْ خُوفْ .. فقد بات هذا المُوقِفْ جُزءْ لا يتجزأ مِنْ يُومهِنْ ، بل هو .. يُضفيّ عليهِ بعضاً مِنْ المَرحْ !
أخيراً جُعِلّ لِانتِظارِهِنْ مَعنى بِخرُوجِ رأسِهَا الصَغيرّ مِنْ خَلفِ البابْ ، أسرعنْ إليها مُتشوقاتٍ لحدثٍ جديد : دانْ ..
هيَّ .. كانتْ مُترنِحَةً مُتوَعِكَة ، مُحمرة الوِجنَتينْ ، لَكِنْ بِمُجردِ أن رأتهُنْ دَبّ فيها النشاطْ لتركُض رافعةً كفيها المُحمرينْ إلى الأعلى وَ تتضاحكُ وَهُنْ وراءها بِأصواتهِنْ الصاخِبَة : انتظريّ .. دانْ .. دانْ .. أخبِرِيَّنا ماذا حدثْ ؟!
توقَفتْ أخيراً في حُضنِ إحدى الزَوايا التي رأت أنها آمِنَة .. فالتفتت إليهُنْ هامسةً غامِزَة وهي تُخرِجُ مِنْ جيبِهَا البالِيَّ عيدانَ حلوَى ملونة : استطعـــــــت !
فُور إخراجِهَا الحلوى علا صُراخْهُنْ وضجيج تسابُقهِن إلى إمساكِهَا ، كُن يتضاحكنْ بِشدَةٍ في فرحٍ يغمُرهُنْ ، وَكأنْ كُلُ واحدةٍ مِنهُنْ قد حازَتْ على كنزٍ عظيمْ لا يَزُوُلّ !
كتحرُكِ الغيُومِ كانت تحرُكاتهُنْ .. وكأنهُن يتقافزن ليتسابَقنْ أيهُنْ سَتتربع على عرشِ السماءِ أولاً ! الذي هُو ليس إلا عُودَ حلوى مُلوَنة ، لا يرُونها إلا مرةً في كُلِ سَنة !
في خِضَمِ ذلِك الضَجيجْ .. تَحرَكَ ظِلٌ صَغِيرّ بِعينَيَّنْ ضَيّقَتِيّنْ إلىَ الوَراءِ بِحَذَرّ ، حَتى اختفَى خَلفْ الحُجُبْ لِيُطلْ بعد عَشرِ دقائِقْ بِضحكةٍ تضِجُ حقداً تُخلِفُ فَوقها عِملاقةً فُورَ وُصُولِها قُربَهُن انتزعَت بيدِهَا الثَقيلة الحلّوُى لِتُحطِمها بِأصابِعها الكبيرة وَمِنْ ثُم تَنتَزِع دانْ مِنْ بينهِنْ .. التي اختَنقَت ضَحِكاتِهَا بِصرخةٍ مملُوءةً بالألمْ وَصُوتُ العِملاقةِ يهدُرّ : ألمْ يكفيكِ ما حلّ بيديكِ مِنْ تِلك العصَـا ! ، وَتسرِقيّنْ حَلوىَ أيضاً أيتُها الحقيرة الصغيرة ؟!!
أغلقتْ دانْ عينيهَا بِقوةٍ مُحاولةً الهروُبْ بعيداً جداً وَأُذنيها تتلقى الصُراخْ المُشبع بِالقسوَة ، ألا يكفيها ألمُ علُوِ صَوتِ تِلك المرأة ؟! وتخشبُ أُذنيها مراراً في يُومِهَا مِنْ الوجِعِ الذيّ تُسببهُ تِلك الأصوات المُرتفِعَة جداً ؟! وأيضاً بالإضافةِ إلى ذلِك .. الشتائِمَ المُكبلّة بالتحقيّر والتَصغِيّر .. وَقسوَة التعامُلّ وَ سُوءَ العِقابْ ؟!
آهةً صَدرتْ مِنهَا في لحظةِ ارتِطَامِهَا بِالأرضْ ، لَحِق ذلِك صُوتُ إغلاقِ البابْ بِقوةٍ وَمن ثُمْ صوتُ تحرُكِ المفتاح في القُفلّ ..
لمْ تتحَرَك بَلّ بَقيتْ كما هِيّ في وَضعِهَا .. مُستلقيةً على جَنبِهَا وَيديهَا ممدُودَتانْ على بعضِهِمَا وَعينيهَا تنظرُ إلى الفراغِ بِبُؤسٍ وَحُزنٍ دَفينْ ! وَ لَمْ تَزلّ في مُوضِعَها حتى سَمعَتْ صوتاً غريباً جعلها تُعَدِلّ جلسَتِهَا ثُمْ تَلتَفِتْ إلى الخلفْ ، أخذتْ تنظرُ إلى الجِدارِ المُتعَفِنْ بِخوفٍ وَمن ثُم التَفتت إلى زوايا الغُرفَة المُظلِمَة بِخَوفْ وَتوجُسْ .. !
في مكانٍ أخَرّ .. بعيداً بِمئاتِ الأميالْ ، عودةُ ذاكِرَة وَ حنينُ قَلبْ .. إلى الأرضْ التي تَحمِلّ تِلك الطِفلَة ، وَالقلبْ الذي يستَوطِنُ أضلُعِ الطِفلَة .. أدمُع تتساقَطْ وَهِتافْ : طفلتي .. أريدُ أن أراها !
عادتْ لتنظُر إلى قريبتِهَا وتهمس بِلهفَةٍ قاربتْ الشرُوقْ الجديد : نوره اذهبيّ إليهم وأعلميهم أنني سأزُورُهَا بعد غدٍ .
خمسةُ أيامٍ قَبلّ أن يُفتح ذلِك البابْ بعد عُسرٍ واستِرضاءْ لِتِلك المسُئُولَة التي قد أُطلِقَ عليها بِتفاؤُل مَحمُومْ لقبْ ” الأُمْ البَدِيّلَة ” ! ، وّ إذْ بِالطِفلَة جُثةً مُكُومَةً في إحدى الزوايا قد مَلتْ مِنْ الشعُورّ بِالألمْ ! فأخذت مكاناً قصياً لِتغفُو على وقعِ بُكاءِهَا علّها تحلُمْ بِقِطعةِ حلَوى مُلوَنة خاليةً مِنْ البُكاءْ ! ، وَلمْ تشعُر بِالنُورِ الساطِعْ مِنْ خِلالّ فتحة البابْ التي توسعتْ مع دخُولّ تِلك المرأة التي لم تكُنْ سُوى زائرَة لتِلك الأرضْ الممتلئة دويّ أولئك الأطفالْ المُفتقرُونْ للسعادة !
انتفضتْ وَهيّ تجلسْ مُشفقةً على الطِفلَة : أيتُها الصغيرة .. دان .. دان ! ما بالُكِ يا حبيبتي ، إرفعيّ عينيكِ إليّ هذا أنا .. لقد أتيتُ لكِ بهديةٍ جميلة أُنظريّ إلى هذهِ اللُعبة .. دان !
وقفتْ دان مُتجاهلةً للصوتْ تائهةً في أرضٍ واسِعَة ضيقَةٍ عليها لا تكادُ أنْ تسع أنفاسِهَا الصاخِبَة ! ، تِلك الأرضْ المُلتهِبَة ، والتي بلّ تُرابُها وغَرِقَتْ مِن بُكاءِ حلوِياتِها الفَقيرة ! ، كانت عينيهَا تُشتبهُ بِكونِهَا مُتخشبتينْ لا تتحركانِ وجفنيهَا يكادانِ يُطبِقانِ عليهُما ، والوجنتينْ المتوعِكتانِ احمراراً .. تِلك كانتْ دانْ .. في نهايةِ كُلِ شهرٍ اكتملَ قمره !
نصفُ ساعةٍ وَتِلك المرأة تُحاوِلّ زرعْ الفرحْ في قلبِ دانْ .. [ أمكِ آتيةً لتراكِ ] .. أيعنيّ هذا حقاً ؟
دان .. لا تستطيع استيعابْ أن هُناك أُماً قد ولدتها .. حنُونةً تُحِبُها .. وَ ( تشتريّ لها قطعة حلوى ) !!
دانْ بعدم استيعابْ : أنا ؟ .. عندي ماما غير ماما سُلمى ؟
يبسمُ ثغر تِلك المرأة بِحنانِ وهي تربتُ على رأسِ دانْ : نعم أُمكِ سارة .. ستأتي لتراكِ وستجلبْ لكِ الكثير من الحلوى والألعابْ ..
دان فتحت عينيها على وُسعِهَا : ألعابْ .. أيضاً ألعـاب ؟
امتلئ قلب المرأة بِشفقةٍ كبيرة وحُزنٍ على تِلك الصغيرة وهي تهمس : نعم .. ألعاباً كثيرة .. دُميةً وأرجُوحة وَكثيراً من الألعابْ التي ستعجُبكِ .. و .. أصنافاً ملونة من الحلوى اللذيذة .
ضحكت دان وصرخت : حلوى ملونةً أيضاً !!!
أخذت تضحك دان بصوتٍ عالٍ وتقفز وهي تصرُخ : ماما .. ماما ستأتي بالحلوى واللُعبة .. ماما أريدُ الحلوى الملونة .
مرت تِلك الساعَة المُنتظرة نهايتها كالشهرِ الطويل على دانْ التي كانت تملئ الأجواءْ ضحكاً وَسعادة .. لقد دارت جميع أنحاءِ ذلِك البيت المعدُوم وهي تملأُ زواياهُ بِغيُومِ فرحِهَا .. وتُمطِرُه بضحِكَاتِها المُتلألِئَة بهجة .. لم تترُك صديقاتِها بِوعُودِها أنها لن تُكُون جشِعَة وطماعةً بأن تحُوز على الألعابِ لوحدِهَا وبالحلوى لها فقطْ ، بل ستغمُرهُم وتطلبُ من الماما الطيبة أن تجلبْ لهم ، بل .. سَتُشارِكهُم هذهِ الماما أيضاً مثل ماما سلمى !
كان مُنتصف الشهر ، باكتمالِ قمرِ تِلك الليلة اكتملَ قمر دان وَفرحتِهَا ، أُشبِعَتْ سعادةً حتى تعبتْ وجلست بجانِبْ المرأة التي أخذت تتصلّ على ماما سارة لتُعجلها خشية من فرطِ سعادة دان عليها !
دان وهي تواً تنتبه إلى المرأة فتتأملها ومن ثُم تسأل : ما اسمُكِ ؟
ابتسمت المرأة وهي تقول : نوره يا صغيرتي .
دان رفعت حاجبيهَا بتفكير : نوره ..! .. اسمٌ حِلُوْ .
نوره ضحكت : أنتِ أجمل دانْ .
دان التفتت حولها ومن ثُم عادت لتنظُر إلى نُوره وهي تقول بِضيقْ : لم تأتي ماما سارة حتى الآن ! .. أينْ هي ؟
المرأة ابتسمت بتؤدة وهي تمس شعر دان : حبيبتي ستأتي بعد دقائقْ .
دان بانزعاجْ : تأخرت .. لقد مرت ساعتينْ حتى الآن ! … وَأنتِ قُلتِ ليّ ساعةً فقط وستكونُ هُنا !
نوره نظرت إلى الهاتِفْ بقلق وصمتْ ..
مرّ الوقت ثقيلاً على دان .. التي أرخت جفنيها من تعبِهَا وغفتْ بجانِبِ نوره ، والوقتُ يمرُ حتى صارت الساعة الحادية عشرة ليلاً ، وبذلك مرت أربعُ ساعاتٍ على موعِدّ اللقاءْ ، وَلمْ تأتي ” ماما سارة ” !
فتحت جفنيها على أصواتِ عاليةً وَ .. بُكاءْ أدهشها فقامت لتنظر الساعة قبل كُلِ شيء ، فرأتها أصبحت الثانية عشر ! فتحت عينيها بِقوة ومن ثُمْ التفتت على نوره لتجدهَا تبكيّ وماما سلمى والآخرُون يتحدثُون بتأثُر ، لم يُشغلها هذا كثيراً إلا أنها تحركت إليهم وهي تتساءل : أين ماما سارة ؟ .. ألم تأتي ؟ .. لقد وعدتني بالحلوى والألعابْ !
التفتوا إليها جميعاً .. كانت نظراتهُم مُشفقة حزينة تختَرِقُ عينيّ الطفلة التي أخذتها الحيرة ..
سلمى بهدوء : حبيبتي دان عُودي إلى الداخل .
دان بانزعاجْ : لكن .. ماما سارة لم أراها بعد !
سلمى بضيق : دان .. لم تعُد هُناك ماما سارة …
دان بدهشة وقلة استِيعابْ : كيف ؟ .. ماما سارة تأخرت وستأتي بعد دقائق ( التفتت إلى نوره ) صحيح يا نوره ؟ لقد وعدتِني بذلِك ..
نظرت إليها نوره ومن ثُم شهقت وبكت ولم تستطع الرد .
اقتربت إحدى الحاضِراتْ هُناك لِدانْ وهمست : دان .. لم يتغير شيء .. لا يُوجد هُناك سوى ماما سلمى هيا حبيبتي عُودي .
دان فتحت عينيها وَكُل أحلامها تتحطم فهمستْ بِألمٍ دفينْ : و .. ولا تُوجد حلوى مُلوَنة ؟ .. ولا دُمية !
[ وِدّيعَة فيصَلْ الحربي ]
تم نشرها في مجلة حياة مُسبقاً مع تغيير اسم دان إلى دانة .
+ ظهور الأم المفاجئ وموتها بحادث حين مجيئهَا لابنتها أيضاً حدث حقيقي ليتيمةً أُخرى .
[/indent][/indent]