تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » في حضرة الضياع || فطيمة المراكشية

في حضرة الضياع || فطيمة المراكشية 2024.

  • بواسطة

في حضرة الضياع

في لحظات هروب من نفسي , مددت يدي إلى كومة المفاتيح الملقاة عبثا على الطاولة ..
بلا مبالاة … أخذتها وأسرعت متجهة نحو المدخل ..
قابلتني سيارتي المهترئة وكأنها تقول لي :

خذيني في طريقك ..
حرريني من هذه الجدران المنبعثِ منها رائحة الصدأ والغبار وبقايا الخبز المتعفّن ..

اتخذت وضعية الجلوس أمام المقود العاج المتآكل بعضا منه كما نخرت عمري الأيام والسنين …
أعدت فتح الباب ليصرخ مرة أخرى بصوت صرير زاد من توَتري ..
أسرعت في الخطوات نحو الصالة وعيناي تبحثان عن محفظة يدي ..
ها قد ( وجدتْني ) حقيبتي وأنا أتعثر بين سجادة تغطي الأرضية , وأسلاك التلفون المنزوع الحرارة ..
تبا .. أليس في هذا البيت شيء يتنفّس !! ما هذه الحياة المفقودة بين هذه الجدران الباردة ؟! ..

أتمتم بكلمات لا تخرج من وعي وأنا أهرول خارجا ..
أدرتُ المفتاح بين قرقعة صوت كعجوز في التسعين , وعناد محرك من سنوات السبعين ..
استجابت سيارتي النداء , فتحركت نحو باب الجراج , المقفل في استحياء ..
لكي يستر ما بين الأربع جدران ,, ربما خوفا من وضع اليد من الغرباء ..
أو مداراة لمحتويات لا نفع منها .. كان الأحرى إحراقها لتنظيف المكان …

انطلقنا …. أنا .. وعربتي .. وأفكاري … وفوضى الإتجاهات ….
أمام ثانوية لالة مريم صادفت خروج الفتيات والفتيان ..

توقفتُ ..
_ تفضلوا يا طالبي العلم فأنتم لا تعلمون أن الختام شهادة تزيّنها البراويز وتعانقها الرفوف والجدران ..

واصلت سيارتي مسيرها تسرع , والسلحفاة منها أسرع ..
في شارع يؤدي إلى تكنة عسكرية تجمهر قوم من مختلف الأعمار ..
أيتها الشريحة العربية المنسية في جحور المعامل ..
رائحة السلع ( المحنّطة ) تنبعث من ثيابكم وأنفاسكم ..
مكان بـ بوّابة عملاقة جمع بين طبقتين : أرباب المكان أصحاب الكروش البارزة ..
وعمال امتصّت ساعات العمل الطويلة ما تبقى في نفوسهم من آمال ضائعة ..

بـ ابتسامة بلهاء برزت من رقعة وجهي , أشرت بيدي :
_ تفضلوا الطريق لكم , فأنتم اسرع من محرك عربتي …

واصلت وعند مفترق الطريق :

_ ألا تنتبه إلى الطريق قبل العبور أيها الرجل ؟! >> أخرجت رأسي أخاطبه
_ لو انتبهَ لوجودي الزمن لتعلّمت منه فنّ الإنتباه … >> رد عليّ غير عابيء لحادث كاد يحدث
_ الزمن علينا وعليك سيدي لا أحد مرتاح …. >> …
_ ربما يلزمكـِ تغيير النظارة يا أختي , فالذي تحمله رجلاه ليس كالمحمول على كرسي متحرك …
_ ولكن نسيتَ المحمول على الأكتاف إلى مكان منه تبدأ الحياة الحقيقة …
انتبه لنفسك ما دت عليها قبل أن نلتقي جميعا تحت ترابها ….

تابعت التيه بين شوارع وأزقة مراكش الحمراء ..
صادفت أناس لا يكاد شارع يخلوا من حضورهم … :
متسول هنا ومتسوّلة هناك .. لا تعرف الصادق من الكاذب منهم ..
تذكرت جار خالتي المتسول .. كنا نلتقيه في الحارة كلما زرنا خالتي في حي المحاميد ..
إلى أن كبرنا وبدأ الشيب يشتعل به الرأس .. وذاك الرجل على حاله يمدّ يده لـ يتصدق عليه المارة ..

أخبرتني ابنة خالتي يوما أنه قد توفي وهو وحيد في بيته المهتريء
بعد 3 ايام انتبه الناس لغيابه فكسروا الباب ليستفسروا عنه وإذا به جثة هامدة على فراشه العتيق النتن ..
بعد التنقيب في خبايا بيته من طرف أصحاب الواجب الحكومي ..
عثروا على أكياس مكدّسة بالأموال .. من بينها عملة من عهد الملك محمد الخامس ….
محظوظ أنت صندوق مالية الحكومة ..
فقد جمع لكم سّي مبارك ثروة عظيمة وقدمها لكم على صحن من ذهب مرصع بالماس ..

وأنا في طريقي :

هنا أمام مدرسة السملالية الإبتدائية توقّفت لحظات ..
رأيت نفسي أخرج من بابها الذي لم ينغيّر ..
أحمل على ظهري النحيل حقيبتي المدرسية ..
ومعي بنت الجيران ( كانت ) أغلى صديقة , ( كنا ) لا نفترق ..
لكن الزمان فرّقنا بعد أن أصبحنا في الإعدادي .. كل منا اتخذ طريقا بعد مقاطعة أبدية …

أحسست وأنا أمام مدرستي أنني ما زلت تلك الطفلة نفسها ..
رأيتُني في وجوه الفتيات وهن يعبرن الطريق أمامي في هذه اللحظة مبتسمات وتتعالى الضحكات ..
تركض الواحدة خلف الأخرى في عفوية افتقدها ..
تأمّلتهن في شرود ذهني كأنه بلسم على جراحات طال بها الألم ..

سادت نفسيتي راحة عجيبة .. وهدوء قد غاب عني فترة من الزمن ..
رميت برأسي إلى الوراء وأغمضت عيناي لأتنفّس الصعداء ..
أنفاس خرجت من صدري فسحبت في طريقها قنبلة أحزان كادت أن تنفجر بداخلي ..

أحسست بنعاس كارتشاف ماء بارد في يوم شديد الحرارة ..
…. حرارة مناخك يا مراكش ..
…..وحرارة شوقي لأرمي بنفسي بين أحضانك …..

كانت هنا جولة في حضرة الذكريات …

بقلم : فطيمة المراكشية
أم القاسم الشريف
المملكة المغربية

كونوا بخير أهل هذا الصرح الراقي
لكم ما كتبته قد خُط مباشرة على هذه الصفحة
اليوم | الخميس 27 مارس | 2024 م
من أرض الغربة .

جميل ماخطه لنا قلمك
دمتي مبدعه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.